هوى الشام| بعد يوم شاق وطويل، عاد العم سمير ياسين إلى منزله على أطراف بلدة “زملكا” في الغوطة الشرقية، حاملاً مشترياته من أسواق العاصمة السورية دمشق.
وعلى عادته مطلع كل شهر، وبعدما استلم الحوالة المالية التي بات يرسلها أبناؤه من إحدى الدول الأوربية بانتظام، يجول الرجل الستيني بين محال (بيع الجملة) ليقتني مستلزماته من المواد الأساسية لزوم الشهر القادم.
ملوحا بيديه اللتين يسعفانه لشرح ما يجول برأسه، يروي العم سمير الذي لـ “سبوتنيك”، قصته الطويلة مع النزوح الذي حفر على تجاعيده العميقة، ورحلة الفقر التي اتخذت لها ركنا من حياته مع سنين الحرب على سوريا.
يرفع يده اليسرى نحو الشرق، في إشارة تلقائية لاتجاه بلدة زملكا من حيث يقف، يبدأ العم سمير حديثه: “غادرنا منزلنا في 2012 عندما اشتدت المعارك مع المجموعات المسلحة التي اجتاحت “زملكا” آنذاك.. أنا وزوجتي وولدي الاثنين: عمر ونضال، حملنا ما استطعنا، بما في ذلك بعض الحلي الذهبية التي كنت قد اشتريتها لأم عمر، وذهبنا إلى حي (برزة) الذي استأجرنا فيه منزلاً هناك على أمل العودة بعد أيام أو أسابيع قليلة.. لم نكن ندري حينها أننا دخلنا للتو نفقا طويلا”.
“بعد قرابة العام”، يتابع أبو عمر: “بعت ما لدي، ودفعت لأولادي تكاليف الهجرة إلى ألمانيا خوفا من أن تسرقهم الحرب”.
أنفق أبو عمر أمواله البيضاء التي خبأها لأيامه السوداء، ولم يبق له سوى الفقر المدقع، حينها قرر العمل كبائع على بسطة خضار وفواكه في سوق (برزة) الشعبي، ليعيل نفسه وزوجته، وفي عام 2016، تمكن أولاده من إرسال الحوالة المالية الأولى له ولأمهم.
كغيره من السوريين، لم يكن أبو عمر بمنأى عما خلفه الحصار الاقتصادي الأمريكي على سوريا، من تزايد أسّي في شظف المعيشة، جراء تدهور سعر صرف الليرة، وتقلص في فرص العمل بسبب تعطيل حصول القطاعين الصناعي والتجاري احتياجاتهما، وصولا إلى منع وصول الإمدادات النفطية الضرورية إلى موانئ البلاد من جهة، وقيام الجيش الأمريكي بتصدير إنتاج حقول النفط والغاز شرقي البلاد، إلى دول الجوار، من جهة أخرى.
حتى مع الحوالة، بدأت المصاريف بالتصاعد، وبالأخص إيجارات الشقق التي أصبحت وحدها تكسر الظهر، يضيف أبو عمر: “بقيت على هذه الحال حتى بداية العام الماضي، عانيت كثيرا من الارتفاع التدريجي لإيجار منزلي في برزة، وبعدما وصل إلى 200 ألف ليرة شهريا… قررت العودة إلى منزلي في زملكا، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من دمار”.
عند هذه اللحظة، عقد أبو عمر حاجبيه على عينيه البنيّتين، فظهرت تجاعيد النزوح أكثر عمقا على جبهته العريضة: “كان محترقا بالكامل، شعرت بالغربة في منزلي الذي بالكاد تذكّرتُ تفاصيله، فاقترح عليّ نضال إرسال حوالات مالية بمبالغ أكبر كي أرمم ما يمكن من خراب”.
“والله لولا هذه الحوالات التي يرسلها أولادي بعدما جمعوها بدماء قلوبهم” يختم أبو عمر حديثه لـ “سبوتنيك”: “لكنت الآن أقف على زوايا الشوارع أسأل المارة، لتأمين سعر ربطة الخبز، أو لربما كنت أفترش الرصيف ليلاً”.
أبو عمر، الذي يعيش اليوم على تحويلات خارجية، أصبحت ليس حالة فريدة في سورية، فمشاهد التزاحم أمام مكاتب الحوالات المالية تشرح المعاناة الاستثنائية التي يعيشها السوريون، في ظل الغلاء الفاحش الذي اجتاح الأسواق، على خلفية التراجع الكبير في أسعار صرف الليرة أمام الدولار، ونهب المقدرات السورية.
السبب.. تدني الأجور
من جانبه، يؤكد الباحث في الشأن الاقتصادي عمار يوسف، لـ”سبوتنيك”: أن نسبة السوريين الذين يعتاشون من الحوالات الخارجية وصلت إلى 70%، موضحاً: “فمثلاً قد يرسل المغترب السوري حوالة مالية إلى أسرته المكونة من سبعة أشخاص على سبيل المثال”، لافتاً إلى أن هذه الحوالات ليست بمبالغ ضخمة إذ أن متوسط قيمة الحوالة الواحدة لا يتجاوز مئتي يورو بالحد الأقصى.
وقال يوسف إن غالبية الحوالات تصل بطرق غير نظامية عن طريق المعارف، عازياً ذلك إلى أن الفرق بين سعر الدولار الحكومي وسعره بالسوق السوداء يصل إلى حوالي 20%، وهذه النسبة يعتبرها المواطن أنها من حقه.
وأشار يوسف إلى أن تدني الحد الأدنى للرواتب الذي لا يتجاوز 70 ألف ليرة (أي ثلاثة كيلو من اللحوم الحمراء)، يعد سبباً أساسياً لاحتياج المواطن السوري إلى هذه المساعدات الخارجية، أو إلزام الموظف بتقاضي بدل المنفعة التي يقدمها للمواطن، مجبراً على ذلك كي يعيل أسرته.
وتابع: “إن احتياجات الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص تصل إلى حوالي 1.850 مليون ليرة، للعيش بكفاف دون رفاهية، وذلك استناداً إلى إحصائية جديدة أجريت بناء على دراسة قامت بها منظمة الأمم المتحدة تحدد حاجة الشخص الواحد من السعرات الحرارية.
وأشار إلى أن ما كان يشتريه بـ 8200 ليرة في عام 2011، أصبح يشتريه الآن بمليون ليرة، ولكن المشكلة تكمن بأن المواطن كان قادراً في السابق على تأمين 8200 ليرة، ولكنه عاجزاً الآن عن تأمين مليون ليرة.
واعتبر يوسف أن مشاهد الازدحامات الموجودة في المطاعم والمقاهي، لا تشي بتحسّن الأوضاع المعيشية لدى السوريين، لأن هذه الطبقة إما من أثرياء الحرب أو من المعتاشين على الحوالات الخارجية، خاصة في ظل اختفاء الطبقة الوسطى، فإما نجد طبقة فاحشة الثراء أو طبقة تعاني الفقر الشديد وهي الغالبية العظمى.
الحوالات.. نسغ حياة السوريين
يقول منير، وهو مسؤول في شركة للحوالات بدمشق: “يصل إلى سورية يومياً ما يزيد عن 5 ملايين دولار، كحوالات من المغتربين”، لافتاً إلى أن أكثر الدول التي يتم استلام حوالات منها هي ألمانيا والسويد وهولندا وتركيا، والعراق والإمارات.
يؤكد منير الذي أصدرت الحكومة السورية قبل نحو 5 أشهر قرارا بإغلاق شركته مع 12 شركة أخرى للحولات الخارجية: أن قرار الحكومة عاد بالضرر على المواطنين أنفسهم، لافتاً إلى أن المواطن حاليا، ينتظر أمام باب مكتب الحوالات لأكثر 8 ساعات حتى يحصل على حوالته، في الوقت الذي تمتلك بعض الشركات التي تم إغلاقها عشرات الفروع في كافة المحافظات.
وطلب منير من الحكومة السورية إعادة النظر بقرار الإغلاق وخاصة بعد الخضوع لكافة الشروط التي وضعها مصرف سورية المركزي، ومن بينها رفع رأس المال، والالتزام بدفع التأمينات وغير ذلك من الشروط الفنية..
المغتربون.. دعم الانتعاش
وقد أثبتت وثيقة نشرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” في العام الماضي، أن المغتربين السوريين يشكلون إحدى دعائم الانتعاش، إذ أدت التحويلات المالية دوراً مهماً للغاية في زيادة مداخيل الأسر المعيشية، وتوقعت أن يستمر هذا الدور في السنوات المقبلة.
وبلغة الأرقام، أشارت تقديرات البنك الدولي في عام 2016، إلى أن التحويلات الخارجية إلى السوريين بلغت حوالي 1062 مليار دولار، أي بمعدل يومي يبلغ في المتوسط حوالي 4 ملايين دولار، إذ تشكل التحويلات مصدراً هاماً لدعم الأسر، حيث تكفل الحاجات الأساسية مثل المأوى والتعليم والصحة، وتساعد المواطنين على مواجهة الفقر العابر بشكل عام.
المصدر: سبوتنيك
(( تابعنا على الفيسبوك – تابعنا على تلغرام – تابعنا على انستغرام – تابعنا على تويتر ))