الأديب
الإعلامي

هوى الشام 

تحفل معظم المواقع والمنتديات الألكترونية المحلية والعربية، إن لم يكن كلها، بعبارات “طنّانة ورنّانة”، يدوّنها المشرفون على المواقع أو المنتديات على الصفحة الرئيسية، تحمل من الخداع والغش ما لا يمكن وصفه وما لا يمكن لعقل أن يقبله!.. عبارات تتطابق أو تتشابه مع هذه العبارة: “الأخوة الزوار: التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو اتهامات لأشخاص أو مؤسسة لا يُنشر، ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البنّاء من أجل حوار هادئ..”.
يا الله، كلام جميل!.. وهل نريد أكثر من هذا الحرص على “الموضوعية والنقد البنّاء والحوار الهادئ”؟!.. هل نريد أرقى من هذا المستوى من الوعي والدعوة إلى تأسيس حوار ناضج ورشيد من شأنه أن يرتقي بالجميع؟!.. بالتأكيد لا أحد يريد أكثر من هذا!.
لكن الحقيقة المرّة والمؤسفة، أن العبارة المذكورة أعلاه وشقيقاتها التي تشبهها، تسقط سقوطاً مدوياً من الباب الأخلاقي ومن باب المصداقية، مجرد الدخول وتصفح الموقع، ومن ثم القيام “بجولة سياحية” على تعليقات ومشاركات القراء الذين يظنون أن الهراء والسباب والشتائم والقدح والذم، من شأنها أن تبني “الحوار الهادئ” المنشود!..
أعداد لا تحصى من المشاركين يعتقدون، عن جهل أو عن تقصد، أن الشتم وتناول الأشخاص والجماعات على هذا النحو المقرف والمؤذي والمقيت، هو أفضل ما أنتجنه ثقافة العصر من “الموضوعية والنقد البنّاء!”.. والأخطر من هذا، أن أصحاب الموقع أو المشرفين عليه، يميلون إلى الاعتقاد نفسه من خلال ما يظهر للمتصفح من أرقام تشير إلى عدد المشاركات أو التعليقات على المادة أو الخبر المنشور و.. “اللهم زيد وبارك”!.
عالم افتراضي فتح باباً واسعاً، طويلاً وعريضاً، وعلى مصراعيه ـ وبلا أيّ ضابط أو وازع قانوني أو أخلاقي ـ أمام هواة التلطّي والاختباء والتعليق تحت جنح الظلام، كخفافيش الليل تماماً، كي يطفئوا ظمأهم من نقص مزمن أو عوز دائم للشتم والتطاول وابتكار وتفصيل الشبهات وتلبيس الاتهامات، لهذا الشخص أو ذاك، لهذه الجماعة أو تلك، لهذا الكاتب أو ذاك، ومن دون وجود أي مستند أو حقيقة تثبت أن المتهم يستحق أن تلبسه تلك الشبهة، اللهم إلا إذا كانت بعض الأحاديث والثرثرات والنميمة التي تدور في المقاهي والمطاعم وأماكن السهر، هي عبارة عن حقائق ووقائع وقرائن لا يرقى إليها الشك!.
تجول بين كثير من المواقع.. تقرأ الكثير من المقالات والأخبار.. وكلما قرأت مقالة أو خبراً، تجد نفسك مضطراً، حتى ولو كان من باب الفضول، لأن تعرّج على التعليقات والمشاركات، بحثاً عن تعليق يتيم يمكن له أن ينضوي تحت قائمة تلك الشعارات الزائفة: “النقد البناء، الموضوعية، الحوار الهادئ!..”.
هنا، حيث الفرصة متاحة للتعليقات والمشاركات، لكل من هبّ ودبّ، يمكن لك أن تعثر على الكثير من “العلك وطق الحنك والنميمة”!.. هنا، يمكن لك أن تعثر على كل أشكال الهذر والإسفاف والابتذال!.. هنا، تستطيع أن تسمي هذه التعليقات والمشاركات بما تشاء، لكنك لن تستطيع أبداً تسميتها أو وصفها بالحوار أو النقد أو حتى إبداء الرأي الذي هو حق للجميع، لكن الشتم والانتهاك ليسا رأياً أبداً، وإذا كان غير ذلك فحريّ بنا الاعتراف أن السوقيين والشوارعيين والزعران هم ملوك وقادة وصنّاع الرأي، لأنهم وببساطة يمتلكون معاجم وقواميس واسعة للشتم والسباب، يتعذر على غيرهم “من الأوادم” امتلاكها أو حفظ محتوياتها واستخدامها بمهارة وإتقان و.. “معلّمية”!.
من خلال تكرار التصفح، وتكرار الجولات المكوكية بين المواقع، يبدو جلياً أن بعض هذه المواقع وأصحابها والقيّمين والمشرفين عليها، يستسيغون ويستمرؤون ـ عن طيب خاطر وخبث، وليس عن جهل! ـ هذه الحالة من الفوضى والعبث والانتهاك، لحرمة البشر ولحرمة الكلمة والفكرة!.. أما المكاسب والغايات، فيمكن اختصارها بهوسهم في رؤية الدوران السريع لعداد الزوار والمشاركين و.. استمرار الجهل والتجهيل، بأبسط قواعد إبداء الرأي والحوار وصناعة الفكرة والقرار!.
شخصياً، وفي مواجهة هذه “الكارثة المعرفية!”، صرت أبحث على الدوام على المواقع الإلكترونية الرصينة “وما أقلّها!”، أو عن المواقع التي لا تفسح المجال للقراء بتدوين رأي أو مشاركة أو تعليق!.. وفي حال حاجتي لسماع “تعليقات أو مشاركات من الأخوة القراء”، فبالإمكان التواصل مؤقتاً مع السوقيين والشوارعينن والزعران و.. ما أكثرهم!!.

جريدة النهضة 11 ـ 1 ـ 2016