“فوضى”: العصف السوري المأكول!..بقلم : سامر محمد إسماعيل
هوى الشام كل مظاهر الحرب رصدتها كاميرا المخرج سمير حسين. في الأسواق والحارات وأحزمة الفقر حول العاصمة السورية. هناك حيث يكمل صاحب “قاع المدينة” همّه الفني في جعل الدراما التلفزيونية مشرطاً بصرياً لتعرية البنية الاجتماعية للحرب الدائرة منذ نيف وسبع سنوات.
هكذا على الأقل يعلن المخرج السوري- الفلسطيني مسلسله الجديد “فوضى” احتجاجاً غير مسبوق على القيم التي كرستها نزاعات ذات البين، مسترشداً بسيناريو كل من الكاتبين حسن سامي اليوسف ونجيب نصير. النص الذي جعل منه حسين مادةً ذات قراءات مختلفة، مشتغلاً على تخليص النص من دسمه الأدبي نحو محلول بصري خالص، أراده بمثابة لقطات ومشاهد متتابعة بإيقاع لاهث وخاطف، متّبعاً مونتاجا صارما ومغايرا في تمرير الأحداث الكثيفة للعمل، الذي بدا في حلقاته المعروضة حتى الآن متداخلاً ومركّباً وحاراً في خطابه الدرامي الخاص.
يحضر هنا الشقيقان (عبد المنعم عماري وسامر إسماعيل) اللذان يقعان في حب امرأة واحدة هي “فتحية” (رشا بلال)، ستكشف لنا الحلقات التالية حكاية اغتصابها من قِبل ذئاب الحرب، وذلك بعد أن قضى أفراد أسرتها في قذيفة “هاون” دمرت بيتها وتركتها نهباً لصراع مع حملها من رجل مجهول. تحضر أيضاً قصة المحامي (سلوم حداد) وعلاقته بمدرّسة الرسم (نادين تحسين بك) التي تعيش صراعاً بين الحب والواجب، فبين طليقها (وائل أبو غزالة) وابنها المتهور (ريمي سرميني) وحبيبها (سلوم حداد) وابنه (مجد فضة)، تنبلج صراعات عديدة أبرزها صدام بين المحامي- الحبيب مع ذوي النفوذ (زهير رمضان) الذي يجبر رجل القانون على التنحي عن الدفاع عن قضية سيكون الخصم فيها أحد أمراء الحرب.
صراعات متعددة لشخصيات جعلت منها الأحداث نموذجاً للهلوسة والتمرد على واقع مزرٍ، كشخصية السكرتيرة (ماري كوجك) التي بدت موديلاً لافتاً لعبثية الحرب ولامعقوليتها.
بالتوازي يقود مخرج “فوضى” تحديات كبرى على صعيد إدارة الممثلين الذين بدوا هنا في أحسن حالاتهم، مستطلعاً قدرات جديدة في نبش العوالم الداخلية لشخصياته، ودفعها قُدماً للانغماس التام مع الأحداث، وبالتالي توريط أبطال (فوضى- سما الفن الدولية) في أداء جماعي يختلط فيه النفسي بالعاطفي، والرفض بالطاعة، والصراخ بالهمس، والبوح بالتشكي. معادلة ليست سهلة في ظل حشود من الكومبارس وزعها المخرج في فضاء اللقطات العامة بأناقة تسجيلية لافتة، مستعيناَ بكاميرا (ناصر الركا) بين عدة أماكن يعرف سكان دمشق بأنها الأكثر اكتظاظاً وصعوبة من حيث السيطرة عليها في أوقات الذروة، ناهيك عن الموافقات الأمنية المطلوبة للتصوير فيها.
من هنا يقطع سمير حسين مغامرة جديدة عل مستوى الشكل، بعد وصوله في العام 2016 إلى نهائي تصفيات جائزة “الإيمي أوورد” العالمية بمسلسله “بانتظار الياسمين”- إنتاج عدنان حمزة). لكن هذه المرة بعناد واضح وإصرار على نبش أحشاء الحرب، واستعراض جهازها الهضمي المصاب بقرحة الدم والثأر، بعيداً عن المباشرة. وذلك بتقليد الحياة فنياً، والتركيز على نقلات رشيقة في المشاهد مستعيرا لغة سينمائية راقية، ليصبح الكادر مشبعاً بتفاصيل الحياة نفسها من باعة جوالين وتعساء ومشردين ومهجرين وأيامى وعاجزين ويتامى وأرباب سوابق وضحايا وجلادين، وُضعوا وجهاً لوجه مع كتل الخراب الدائر التي تم توثيقها منذ الحلقات الأولى مصحوبة بقصيدة لمحمود درويش، كدلالة على تغريبة سورية كتلك الفلسطينية، قاذفاً بكائناته المرضوضة والناقمة في فضاء خطِر ومحاصر ومشبوه؛ فالمكان في “فوضى” على اتساعه وبذخه البصري تُرك معادلاً للعالم النفسي لشخصياته المأزومة الخائفة الهاربة من أشباح تطاردها. توليفة تحتمل العديد من القراءات، وتفتح الباب مجدداً على عشوائيات الحرب وتعاسة قاطنيها، والتي كتب لنا المخرج عتبة لسياقها الجديد: “المدن لا تشيخ بفعل الزمن، بل بتعاقب الإهمال”.
توريات عدة تتكاثف ضمن هذه اللعبة الدرامية المحكمة، لكن أكثرها قسوة تلك المشاهد المفتوحة على كوادر محروقة وأخرى تتداعى مترامية على أرصفة الشوارع والبيوت المدمّرة. العصف المأكول الذي أحال المدينة إلى ركام فوق ركام وخراب فوق خراب، فالفوضى التي ضربت بمقياس عشرين ريختر ليست زلازل طبيعية، بل هي “فوضى” تذكيها نيران الأنفس الغاضبة الحانقة المخنوقة بظلم ذوي القربى، وافتئات الأخ على أخيه، وصولاً إلى محق كل قيم التعاطف والشفقة (سيدهشنا هنا مشهد قراءة الفاتحة على عجوز ميت والذي يقطعه رنين هاتف محمول من أحدهم ليترك تلاوته للسورة القرآنية من أجل هاتف من ولده يدعوه إلى لمِّ الشمل)، وحيث يطل النساء والرجال على إرثٍ دموي يجعل أي انتهاك قبالته مشروعاً ومبرراً، بل وحقاً من حقوق الجلاد على الضحية.
لا مواربة ولا رتوش على “فوضى” رسمت لها موسيقى الفنان طاهر مامللي سياقاً درامياً محايداً وبعيداً عن النمط الميلودرامي، وصولاً إلى أن النص الأدبي والبصري اقترحا معاً نصاً موسيقياً موازياً، تتدفق عبره الأحداث والمصائر والمكائد دون أن ندخل في مفصلة قسرية لأداء الممثلين، وحجم اللقطات وتواترها داخل الكادر التلفزيوني، والذي نقل بصدق ما حل بحطام الطبقة الوسطى في سوريا، وكيف تحول هذا الحطام إلى عشوائيات الحرب الجديدة الأكثر خطراً ودموية وتربصاً بما تبقى من أشلاء المدن التي أرهقتها سنوات الحرب الطويلة.
واقع بتوقيع دراما سورية تحيلنا إلى عبارة الفيلسوف الدانماركي سورين كريكغارد: “إذا أردتَ أن تنفيني ضعني ضمن نظام، أنا لستُ رمزاً حسابياً، إنني أنا”!