هوى الشام
في حياة مبدعة مثل السيدة فيروز , يتوقف الانسان عند محطات عديدة تبدأ ولا تنتهي , فهذه الانسانة اختزلت طاقات لم تتح لغيرها , إذ كيف بوسع المغنية الخجولة المتحفظة أن تقف على خشاب المسارح في أنحاء المعمورة ثم تصبح نجمة شباك سينمائية.
وفي مسيرة فيروز مع السينما ثلاثة أفلام , وهي حصيلة لا يعتد بها عند نجوم هذا الفن لاسيما أبناء جيلها ليس في مصر هوليوود الشرق فقط بل حتى في بلدان كلبنان وتونس وسوريا , ولكن الاعمال السينمائية التي قدمتها فيروز حملت طابعا فيروزيا والتصقت بهذا التراث الثري ثم اكتسبت أهميتها منه وجعلت من بطلة هذه الأفلام هي ذاتها التي عشقها الجمهور العربي مغنية على المسارح.
(بياع الخواتم)..بوابة فيروز الى السينما
استطاعت فيروز ان تثبت في أول تجربة سينمائية لها (بياع الخواتم) أنها ليست سيدة الغناء واميرة المسرح فقط إنما أكدت حضورها الآسر في السينما، وقدرتها العالية على التمثيل، خصوصا مع عبقري السينما العربية يوسف شاهين فكان هذا الفيلم باكورة اعمالها من ضمن ثلاثة افلام قدمتها خلال مسيرتها السينمائية.
أما عن الصدفة التي جمعتها بيوسف شاهين لانجاز الفيلم فكانت عندما جاء في رحلة إلى لبنان، فاغتنم الأخوان رحباني الفرصة وعرضا عليه الفكرة فاقتنع بها واكتملت الشراكة الإنتاجية والفنية بانضمام المنتج السوري المهندس نادر أتاسي كممول، فيما شارك الرحابنة وفيروز بالإنتاج مقابل أتعابهم.
و”بياع الخواتم” الذي كان مسرحية قبل أن تلتقطه الشاشة أدّت فيه فيروز دور “ريمة” أمام المختار “نصري شمس الدين”، وغنّت فيه مجموعة من أجمل أغنياتها، مثل: “تعا ولا تجي”، “يا مرسال المراسيل”، “على مهلك يا با على مهلك”، “بياع الخواتم”، وغيرها و(ريمة) ابنة أخت المختار، الذي يوهم أهل قريته، بوجود مجرم يهدد أمنهم يدعى (راجح)يتصدى له المختار دوماً في منازلات بطولية، تصوره كضرورة لأمن القرية ضد الخطر المحدق بها لكن الكذبة تنكشف، ويأتي (راجح) بياع الخواتم، ليبيع خواتم الحب والألفة، ويطلب (ريما) زوجة لابنه.
وقال يوسف شاهين عن فيروز وهي تقف لأول مرة أمام كاميرا السينما: (فوجئت بالموهبة التمثيلية التي تتمتع بها فيروز كنت أعرف أنها الصوت الوحيد المتفرد، لكنها أثبتت أنها أيضاً واحدة من كبيرات ممثلات الشرق تتمتع بالبساطة والبساطة منبع الجمال)
(سفربلك)….دراما الحب والجوع والحرب
انتقلت فيروز من كاميرا شاهين إلى بروجكتور “هنري بركات” عام 1967، الذي منحها دور “عدلة” في فيلم “سفر برلك”، وكان من تأليف الرحابنة وكامل التلمساني، وبطولة نصري شمس الدين، حيث قدمت في هذا العمل مجموعة من الأغاني منها: “يا أهل الدار”، “دوارة عالدوارة”، و”علموني”.
ويعود الفيلم بأحداثه الدرامية إلى عام 1914 حيث تقوم الدولة العثمانية بقطع القمح عن لبنان بقصد تجويع الأهالي لإضعاف مقاومتهم وكانت تجمع الشباب وتسوقهم إلى المنافي فسُمّيت هذه المرحلة بسفر برلك كما أجبرت كل قادر, على العمل بالسخرة كتقطيع الحطب, حيث يصوّر الفيلم معاناة الناس وشجاعتهم وفي نفس الوقت, يظهر جمال الطبيعة في لبنان, ويقدم لنا الأغاني الشعبية اللبنانية عبر صوت فيروز الخالد.
وتدور احداث الفيلم حول عدلة (فيروز) التي تعيش مع جدتها في ضيعة مجد الديب وتنتظر يوم خطبتها من حبيبها عبدو, وهو في طريقه لشراء محابس الخطبة, يقبض العسكر العثماني عليه ليعمل بالسخرة في تقطيع الحطب ما يدفع بعدلة الى تقتفي أثره, في ضيعة عمتها عين الجوز, لتكتشف أن عمتها والمختار (نصري شمس الدين) يساعدان في مقاومة الاحتلال حيث تعيش أجواء الحرب والتضحية والجوع.
وتتوالى احداث الفيلم ليختتم بمشهد من على مشارف صخرة عالية تطل على البحر, حيث تصرخ عدلة لعبدو, الذي كان قد أبحر مع المناضلين,لترافقه في رحلته فيعدها عبدو بالعودة, ويطلب منها أن تلبس خاتم الخطبة, وتنتظره لينتهي الفيلم بمشهد تلوّح فيه عدلة بالمنديل الأزرق, وتلبس خاتم الخطبة.
هنا أيضاً تؤكد فيروز إتقانها لدورها، بل تترك بصمة بأنها بحق نجمة في التمثيل حيث تقول”الأفلام التي عملتها بقي فيها كل الأشياء التي نحبها من الأمكنة والناس والشبابيك والأغاني”.
(بنت الحارس)..التعاون الثاني والاخير مع هنري بركات
يبدو أن فيروز فضلت المسرح على السينما، إذ أنها بعد “سفر برلك”، لم تقدم سوى فيلم واحد هو “بنت الحارس” عام 1968، الذي أخرجه هنري بركات، وتعتبره فيروز أحب أفلامها حيث أدت دور “نجمة” التي تتنكر في زيّ “أبو كفية” لتقبض على اللص الذي يسرق بيوت السكان، وشارك في الفيلم نصري شمس الدين مع مجموعة من النجوم، منهم: عاصي الرحباني، إلياس رزق، ومارسيل مارينا وفي هذا الفيلم نجد أغنيات خالدة، منها: “يلا تنام”، “يا عاقد الحاجبين” و”اطلعي يا عروسة”.
وتدور احداث (بنت الحارس)من خلال قصة حارسين ليليين، قضيا على السرقات في بلدتهما بسهرهما على مصلحة الأهالي فيقرر مجلس البلدية صرفهما من الخدمة بدل مكافأتهما وتقرر فيروز أو (نجمة) ابنة أحد الحراس، إعادة اللصوص إلى البلدية بحوادث يفتعلها مجهول ما هو إلا (نجمة) التي تكشف فساد أعضاء المجلس البلدي.
وأدت فيروز في الفيلم شخصية مركبة، فهي الصبية الطيبة ذات الصوت الجميل ومعلمة الأطفال والملثم أبو الكفيّة، الذي يتحرك بسرية ويقفز من أماكن عالية لتثبت أنها تحفة سينمائية مذهلة.
صورة مختلفة عن نجمات السينما
تعد أفلام فيروز السينمائية، ذاكرة لبنان الجغرافية وطبيعته الخلابة وهي أفلام تؤرخ للعلاقات الإنسانية والاجتماعية والعاطفية في ذلك الزمن الجميل ففي الأفلام الثلاثة، ظهرت بأدوار خرجت عن النمط المألوف بأفلام الستينيات بمصر فهي ليست نجمة العشق والهوى ولا المشاهد العاطفية والمشاعر المتأججة وإن كانت أغانيها السينمائية تعبر عن التوق للحبيب لكنه الحبيب الذي تختلط صورته بالوطن، والأهل، والحياة البسيطة الهانئة، والعيش بكرامة ولم تكن العلاقة العاطفية مقصودة لذاتها في أي من هذه الأفلام لأن فيروز جسدت فيها ابنة الضيعة اللبنانية بذكائها الفطري وانشغالها بهموم الحياة والأهل، وحساسيتها العالية تجاه اختلال موازين العدل سواء كانت بفعل احتلال، أو بفعل فساد سلطة أو نظام اجتماعيين.
وافلام فيروز لم تكن موجهة للنخبة، ولم تغرق في صيغ تجريبية أو جمالية مترفة لكنها في الوقت ذاته، كانت متقدمة فكراً وفناً وصياغة، عن كل السينما الجماهيرية المصرية أو السورية أو اللبنانية التي كانت تقدم في زمنها فقد كانت صورة مثالية لسينما نظيفة، يسعى صناعها لاحترام تاريخهم الفني، والتعاون مع خبرات مشهود لها وتقديم أفكار نقدية كل ذلك من خلال صيغة سينمائية يشكل الغناء حجر زاوية فيها دون ان يأتي على حساب الجانب الدرامي، فالأفلام لم تكن ذريعة لإفساح المجال لفيروز للغناء بل كانت الدراما تنهض بقوة وعذوبة لتكمل الجانب الغنائي في عمارة فنية بسيطة وبديعة.
وتبقى هذه الاعمال تذكاراً من زمن جميل مضى لم تنسه ذاكرة السينما العربية، ولا شاشات المحطات الفضائية في عصر البث الفضائي ولم يستطع الرحابنة أن يضيفوا إليه عملا رابعاً رغم أن هذا العمل المأخوذ عن مسرحية (هالة والملك) كان يجري التحضير له في سبعينات القرن العشرين، بمشاركة الفنان دريد لحام وإنتاج المهندس نادر أتاسي الذي اشترى حقوق القصة وتعثر إنتاجها لأسباب شتى فضاعت بذلك حبة ثمينة من حبات العقد السينمائي الفيروزي الجميل.