هوى الشام| عندما يرحل فنان من أبناء آل قنوع فإننا لا ننعى شخصاً بعينه، بل أسرة بأكملها قدمت للفن السوريّ ما لم تقدمه عائلة سواها في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون.
وما محمد قنوع إلا غصن من أغصان هذه الشجرة الفنية الوارفة، فهو سليل عائلة عشقت الفن حدّ الوله وجعلته مهنتها فنبغ منهم تسعة مارسوا التمثيل والإخراج والتأليف.
والد الراحل محمد هو المخرج مروان قنوع الذي رحل عن عالمنا في 29 شباط من سنة 2020، وكانت بداياته كممثل كوميدي تنقل بين فرق خاصة، قبل أن يستقر به المقام مع فرقة أخويه، فاختص بتقديم شخصية تشارلي شابلن في عروض مسرح دبابيس، ثم اتجه للإذاعة وأخرج عشرات الأعمال المهمة وأكثرها شعبية، كان أهمها سلسلة (حكم العدالة)، وكانت لديه آراؤه الخاصة في موضوع المسرح الخاص فرفض إطلاق تسمية الـ( تجاري) عليه، وكان يجده لا يقل أهمية عن نظيره القومي، والذي تراجعت أهميته في رأيه منذ أن أصبح حضور عروضه مجانياً أو شبه مجاني.
الشقيق الثاني في هذه الأسرة كان الشاعر الغنائي أحمد قنوع، ولعله أحد أكبر شعراء الأغنية لا في سورية وحدها، بل على المستوى العربي، فهو صاحب مجموعة كبيرة من الأغاني الأكثر جماهيرية مثل: «لا تدلع» لطلال مداح و«لمن هذا الجمال» لوليد توفيق و«راياتك بالعالي يا سورية» لغالب صلاحي و«باعتلك يا حبيب الروح» لموفق بهجت وغيرها الكثير، ومازلت أتذكر كيف كانت أغانيه التي يكتبها لعروض فرقة دبابيس هي أكثر ما يشدنا لهذه العروض، فكان على الأغلب يأتي بأغنية مشهورة ويستبدل نصها العاطفي بآخر ساخر وناقد، مثل «خالتي يا خالتي» على أغنية «زهرتي يا زهرتي ومتمني جيب لفتحية» على لحن «بحور الشوق يا مراكبية».
بينما الأخ الثالث كان عمر قنوع من مؤسسي المسرح المدرسي في وزارة التربية وشارك في العروض الأولى للمسرح القومي، كما سجل عبر مايكروفون الإذاعة حضوراً لا ينسى عندما قدم زهاء ثلاثة عقود شخصية «الرائد هشام» في حكم العدالة فكان بطل العمل الأول الذي استحوذ على الجمهور في سورية ردحاً طويلاً من الزمن.. واشترك عمر مع الشقيق الرابع هاشم قنوع في تأسيس مسرح دبابيس مطلع السبعينيات، كإحدى أهم تجارب مسرح القطاع الخاص في سورية في القرن العشرين.
ولمسرح دبابيس قصة تجدر روايتها لتوثيق هذا الإبداع السوري الذي أفل، ذلك أن الأشقاء عمر وهاشم وأحمد أسسوا في الخمسينيات تجمعاً فنياً حمل اسم (الفرقة الشعبية للتمثيل والموسيقا) كانت تقدم عروضها في حي المزرعة الدمشقي، ولكن العرض الذي حمل اسم (دبابيس) وتضمن سلسلة لوحات اجتماعية ناقدة حقق نجاحاً لافتاً استرعى انتباه الإخوة، فأطلقوه على فرقتهم وظل طابعاً مهيمناً على عروضهم التي ناهزت الأربعين، وجمعت الغناء والكوميديا، وكانت حدثاً ينتظره أهالي دمشق وزوارها، حتى كان السياح العرب يقبلون عليه بشغف.
عدنان قنوع الشقيق الخامس وهو الباقي الوحيد من هذه العائلة بعد أن رحل جميع إخوته، وكان حضوره أقل حيث اقتصرت مشاركاته على مسرح دبابيس وفي عدة مسلسلات في الإذاعة والتلفزيون.
اقرأ أيضا:
ومن رحم هذه العائلة جاء محمد، ولكن والده لم يشأ له أن ينتسب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية حرصاً على سمعة العائلة الفنية، حتى لا يقال إن لجنة القبول التي تضم عتاولة المسرح الأكاديمي والجاد رفضت طلبه لأنه ينتمي لأسرة قنوع المتخصصة في المسرح الخاص.. وكان محمد أكثر ديناميكية من أبيه وأعمامه فقرر ألا يحصر مثلهم حياته في المسرح، وبعد أن نمّى تجربته في عروض دبابيس اتجه للشاشة الصغيرة، وأخذ يشارك سنوياً في أعمال عدة بدءاً من (مرايا) مع الفنان ياسر العظمة رغم صغر حجم الأدوار التي كانت تسند له.. وقلما نجد ممثلاً أدى هذا الكم من الأدوار المتنوعة في عقدين من الزمن، واللافت أنه كان يؤدي في كل مرحلة عمرية أدواراً تتباين مع تقدمه في العمر، وكأن اختلاف ملامح وجهه جعلت المخرجين يجدون فيها كل مرة شيئاً مختلفاً، من الشاب المستهتر أو الشقي كما (نسيب) في (ليالي الصالحية) و(مأمون) في (غزلان في غابة الذئاب) و(نزار) في (وجه العدالة)، ورب الأسرة المكافح كما (أبو سليم) في (باب الحارة) و(شاكر) في (بيت جدي)، والزوج العصبي كما دور (ماجد) في (فوضى)، ورجل الأمن أو الضابط كما في (ما بتخلص حكاياتنا وعناية مشددة ومع وقف تنفيذ وكسرعضم).
وكانت الانعطافة الكبرى في الأدوار التي جسدها محمد قنوع شخصية (شومان) في (العربجي) التي كانت مختلفة بصورة جذرية عن كل أدواره السابقة، ولقد حرص على تقديمها بطريقة مختلفة عن المكتوبة في النص، بداية من شكله الخارجي وتغيير شكل الشعر، وطريقة المشي وردات فعل الشخصية وطابعه السلبي وادعائه الرجولة ليأخذ مسحة كوميدية بعيداً عن المبالغة.
أحب قنوع هذه الشخصية من قلبه والتي كانت آخر ما أداه في حياته من أدوار، وكان يشعر بسرور كبير واستمتاع مع كل مشهد يؤديه، وخلاف أدواره السابقة كان يحضر طريقة تقديم كل مشهد، وعندما مات (شومان) في نهاية المسلسل نعاه على حسابه الشخصي، وما كان ليعرف أنه نعى نفسه لنفسه ولنا.
تشرين – سامر الشغري