هوى الشام | المختار وشيخ المشايخ وأبو ديب، ليست مجرد أسماء شخصيات لعبها الفنان الراحل نصري شمس الدين في مسرحيات الرحابنة، بل كانت جزءاً فعلياً من الشخصية الحقيقية لهذا المبدع وابن الضيعة بثباته وصبره واتزانه، وطيبته ولطف معشره، لأن أدوار الفنانين تعنيهم كما كتب ذلك مرة الأخوين رحباني في إحدى مسرحياتهما.
وشمس الدين إلى ذلك ابن قرية جون أم الزيت والزيتون الرابضة في قضاء الشوف على سفوح جبل لبنان، فتنسم هواءه العليل ونهل من تراثه بعتاباته وزجله، ثم انطلق يشدو في بلاده والعالم، وكان أكثر ما كان يحب الشام، وجلّ ما تمنى أن يفارق الدنيا وهو يغني على المسرح، فتحقق له كل ما أراد عندما رحل عن عالمنا على مسرح نادي الشرق الدمشقي.
ابنة الراحل البكر السيدة ألمازة شمس الدين باحت في ذكرى رحيل والدها الأربعين بمشاعرها إزاءه كإبنة وكإنسانة سحرها فنه العريق فقالت في حوار خاص معها ((نصري الذي انتمى فنياً للعائلة الرحبانية، لم يكن يطمح الا أن يكون وفياً لفنه فكان مقلاً في إطلالته على الأعلام، و كان يحب الكلمة الجميلة واللحن البسيط ليصل الى أكبر فئة من الناس)).
وتستعيد ألمازة قصة حياة والدها وما شهدته من محطات مستهلة بالقول ((ولد أبي واسمه الحقيقي نصر الدين شمس الدين في بلدة جون سنة 1926 من أسرة من المشايخ، وتزوج من السيدة يسر الداعوق وأنجب أربع بنات وصبيين ألمازة مصطفى مي ريما ولينا وماهر)).
وتخبرنا ألمازة عن تعلق والدها بالفن منذ الطفولة، فبدأ منذ صغره يدندن أغاني الضيعة والتراث، إلى أن غنى صغيراً أمام الفنان عمر الزعني فأعجب بصوته كثيراً، وهذا ما شجعه على خوض مسيرته الفنية فاستهلها من إذاعة الشرق من القاهرة، وكانت أول أغنية له بحلفك يا طير بالفرقة، إلى أن تعرف على الرحابنة وفيروز وبدأ باكورة أعماله معهم في اسكتشات غنائية، متل براد الجمعية وكاسر مزراب العين وحلوة وأتومبيل وأبودربكة)).
وتطورت هذه الاسكتشات لتتحول إلى مسرحيات غنائية قدمها والدها مع الرحابنة وفيروز، كانت تعرض تحت أعمدة بعلبك وفي الأرز وفي قصر البيكاديلي وعلى مسرح دمشق الدولي، إضافة إلى مسرحية دواليب الهوا مع الفنانة صباح وموسم العز مع صباح ووديع الصافي.
وتؤكد ألمازة أن رصيد والدها ضم إلى جانب اشتراكه في جميع مسرحيات وأفلام الرحابنة مع فيروز، أكثر من خمسمائة أغنية فردية من تلحين كبار الملحنين كفيلمون وهبي وملحم بركات وحليم الرومي وغيرهم.
وتتمنى ألمازة لو توجد جهة تساعدها لتجميع وحفظ تراث والدها المبعثر هنا وهناك وتقول ((أحاول قدر الأمكان ولكنني أحتاج لكثير من الوقت والجهد والمال، .. أرغب أن ترعى أي جهة رسمية هذا العمل نظراً لضخامته وثروته)).
وكان أكثر ما كان يقض مضجع نصري في سنواته الأخيرة الحرب اللبنانية كما ذكرت ألمازة، لأنه كان من الفنانين القلائل الذين رفضوا أن يتركوا وطنهم في زمن الحرب، بل بقي يجاهد حتى يبقى صوت الفن عالياً على القتل، ومما أحزنه أيضاً قضية فلسطين، فغنى لها يا طير يا طاير على فلسطين)).
أما أكثر ما كان يفرحه فهو الجلوس مع أولاده يغني ويدندن على عوده في السهرات وهم جميعاً من حوله، وأيضاً كان يسعد كثيراً حينما يصعد إلى بلدته جون ويقضي وقته في معصرة الزيت خاصته، والتي ما زالت قائمة إلى اليوم.
وتستذكر ألمازة بمرارة حزن والدها عندما سافرت في رحلة الزواج إلى أميركا، فغنى لها أغنية من كلمات مصطفى محمود تقول بعرسك بدي قدم هدية والتي أحزنت الجميع يومها.
ولا تزال ألمازة تتذكر يوم الجمعة الحزينة في 18 آذار من سنة 1983 عندما رحل والدها عن عمر لم يناهز السابعة والخمسين وتقول ((كانت أمنية نصري أن يموت وهو يغني الوطن والضيعة والناس والله أراد ما يكون، لقد توفي وهو يغني على المسرح في فندق الشرق بدمشق حيث اعتقد الساهرون بادئ الأمر أنه يداعب الجمهور، ليعود إلى وطنه محمولاً على سيارة أجرة)).
وتختم ألمازة حديثها عن والدها الفنان الراحل بالقول (( كان نصري كالشعلة التي أضاءت ليل العتمة فأنبلج صبحه غناء لكل القيم التي آمن بها، عالعين وبتذكر يا قلبي .. الزيتون والتين .. كيف حالهن وغيرها من الأعمال التي عبرت عمّا يكنّه من حب لهذه الأرض وما عليها، من قيم تكاد تغيب عنا كالضيعة والعين الرقراقة، وكأنه يدعونا بأن لا ننسى ما كنّا عليه وأن نعيد بناء هذا التراث المندثر تحت وطأة الغناء الفاجر والعابر، لقد كان نصري الرسالة قبل الصوت وقبل الأوف وبعدكم بالبال ما رحتوا، ببساطة كل الكلمات وسحرها وجوهرها)).
تشرين – سامر الشغري
(( تابعنا على الفيسبوك – تابعنا على تلغرام – تابعنا على انستغرام – تابعنا على تويتر ))