يعتقد الخبراء أن مواسم البرد القادمة في ظل التغير المناخي ستكون شديدة البرودة، لكنهم يعتقدون أيضًا أن الإنسان قادر على التكيف مع بعض هذه البرودة المتوقعة؛ فخلال ستينيات القرن الماضي، أجرى باحثون أمريكيون تجربة وجدوا فيها أن الرجال العراة الذين أمضوا ثماني ساعات في اليوم في غرفة تبلغ درجة حرارتها 10 درجات مئوية؛ أصبحوا معتادين على البرد، وتوقف معظمهم عن الارتعاش بعد أسبوعين.
وفي وقت لاحق، خلصت الأبحاث التي أجرتها فرق الدول الاسكندنافية والمملكة المتحدة، إلى أنه يمكن للناس التعود على هذه البيئات الباردة والتقلبات، كما خلصت مراجعة بحثية حديثة لباحثين أمريكيين إلى أن جميع البشر يبدو لديهم بعض القدرة، على الأقل، على التكيف مع البرد.
وفي دراسة صغيرة نُشرت في مجلة «بلوس وان» عام 2014، قضت مجموعة من الرجال الأصحاء ما يصل إلى ثلاث ساعات في اليوم جالسين في حمامات بدرجة حرارة حوالي 14 درجة مئوية. وفي بداية الدراسة التي استمرت 20 يومًا، ارتعش الرجال كثيرًا كاستجابة أولية من الجسم البشري للبرد، ومع تسارع معدل ضربات القلب والأيض، تولدت الحرارة، وفي الوقت نفسه ضاقت الأوعية الدموية وتراجعت من سطح الجلد؛ ما تسبب في انخفاض درجة حرارة الجلد، مع استمرار أنظمة الأوعية الدموية في سحب الدم باتجاه تصميماتها الداخلية الدافئة في محاولة للهروب من البرد الخارجي.
ولكن بحلول اليوم الـ20، حدث كثير من التغير؛ حيث توقف الرجفان والارتعاش إلى حد ما، في حين استمر الأيض ومعدل ضربات القلب في الاستجابة نفسها لحمام الماء البارد، ولم تعد الأوعية الدموية الخاصة بهم مقيدة، ولم تنخفض درجة حرارة جلدهم كما كان من قبل، وفي الوقت نفسه كانت عينات الدم تحتوي على علامات أقل من الإجهاد الناجم عن البرد ونشاط الجهاز المناعي؛ ما قد يعني أن أجسادهم تعودت على البرد.
وبحسب الباحثين، فإن كل شخص لديه القدرة، إلى حد ما، على التكيف مع البرودة، وجسم الإنسان يبدو أنه يحقق التأقلم بمزيج من التعديلات الداخلية المختلفة التي يمكن للناس إما تشجيعها أو قمعها اعتمادًا على سلوكياتهم؛ فهناك أدلة على أن نوعًا معينًا من الأنسجة الدهنية يُعرَف باسم «الدهون البنية»قد يساعد الجسم على توليد الحرارة استجابةً لظروف البرد المستمرة، حيث أن أجزاء من الجسم البالغ -خاصة المنطقة المحيطة بالعمود الفقري العلوي والرقبة- إما تحتفظ بالدهون البنية أو تولد دهونًا بنيةً جديدةً، وأنسجة دهنية استجابةً للبرد.
كما أن التعرض المزمن للبرد ينشط بطريقة ما هذا النوع من الدهون الذي يلاحظ أنه يخضع لتغيرات موسمية مثيرة .
وبحسب الباحثين، فإن لدى الأطفال الحديثي الولادة الكثير من الدهون البنية؛ ما يساعدهم على البقاء دافئين؛ لأنهم يفتقرون إلى العضلات الكافية للارتعاش.
ويضيف الباحثون أن الدماغ يراقب إدراك درجة الحرارة، ويكتشف البرد جزئيًّا من خلال ملاحظة درجة حرارة الدم التي تتدفق إليه عبر الرقبة. ولهذا السبب، فإن ارتداء وشاح يجعلك تشعر بالدفء، ومن خلال تسخين الرقبة والدم الذي يتدفق من خلالها، يقوم الوشاح بخداع الدماغ للاعتقاد بأنه دافئ، تمامًا كما يمكن أن تساعد قطعة قماش باردة على الرقبة الدماغ على تهدئة الشعور بحرارة الصيف، ومن المحتمل أن استجابة التعرض المنتظم للبرد تجعل الدهون البنية في منطقة الرقبة تتشكل وتصبح أكثر نشاطًا؛ ما يجعلنا أكثر راحة في درجات الحرارة الباردة.
لذلك يعتقد العلماء أن الجسم البشري يمتلك عددًا من الآليات المختلفة تساعده على التكيف مع البرد، لكن معظم الناس في العالم المتقدم يقمع هذه الآليات التكيفية، على الأقل إلى حد ما، بحماية أجسادهم من الضائقة الحرارية؛ فارتداء المزيد من الملابس، وشرب المزيد من المشروبات الساخنة، وزيادة درجة حرارة الغرفة، واستهلاك المزيد من الطعام -ما يزيد معدل الأيض الداخلي- ومثل هذا السلوك لا يسمح للجسم بأن يطلق قدراته الذاتية ليصبح أكثر مقاومة للبرد، بل قد تعرقل هذه السلوكيات قدرة الجسم على التكيف مع درجات الحرارة الباردة، ولا تسبب سوى أضرار طويلة المدى، كالإكثار من شرب الشاي الساخن وتأثيره في الصحة، ورفع درجة الحرارة في سيارتك أو منزلك وتكلفته المالية، ومساهمته في انبعاثات غازات الدفيئة. أما تشجيع جسمك على التكيف مع البرد فيُمكِّنك من الشعور بالراحة خلال الخريف والشتاء، دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على نظام التدفئة.
وبحسب الخبراء، فإن خفض منظم درجة حرارة الجسم بضع درجات، وتخفيف طبقات من الملابس، وقضاء المزيد من الوقت في الخارج في ظروف باردة، مع أي شيء يسبب لك الارتعاش؛ سيساعد جسمك على التأقلم مع البرد. وإذا تمكنت من إحداث ارتعاش عدة مرات في اليوم، فستشعر براحة أكبر في درجات الحرارة الباردة بعد أسبوع واحد فقط. وإذا كنت تريد –حقًّا- تسريع عملية تعوُّد جسمك على البرد، فاستكمل ذلك بالاستحمام البارد. وهنا يقترح الخبراء البدء في تعريض جسمك سريعًا للماء البارد لمدة 15 ثانية، وإضافة 10 ثوانٍ كل يوم حتى تصل إلى تحمُّل الماء الجليدي.
ويعتبر قضاء الوقت في الحمام البارد أو في بيئات باردة أخرى أمرًا آمنًا لمعظم الأشخاص، وقد يوفر بعض الفوائد الصحية، لكن المعرضين لخطر الإصابة بأزمة قلبية يحتاجون إلى توخي الحذر؛ فأول شيء يحدث عندما تتعرض للبرد هو تضييق الأوعية الدموية وارتفاع ضغط الدم؛ لذلك فإن التعرض للبرد، خاصةً البرد الشديد، يشبه القفز في بحيرة جليدية؛ يمكن أن يؤدي إلى نوبة قلبية أو مشكلة أخرى عند المصابين بأمراض القلب. أما إذا كان قلبك بصحة جيدة، وكنت تتطلع إلى تسخير القدرة الطبيعية لجسمك على التكيف مع البرد، فيجب أن يكون لك أسبوع من الارتعاش.