خاص هوى الشام | تكتب الشاعرة فاتن ابراهيم حيدر عن حياتها فتقول .. ولدت عندما مرض أبي وكان يوم مولدي يوم وفاته.. أمضيت عمري وأنا أبحث عن أمي، لم تكن طفولتي طفولة سعيدة فلم أعش طفولتي في حضن أمي فالأيام التي كانت تمر علي في حضنها كانت متفرقة وقليلة جدا.
تربيت في بيت ريفي بسيط وفي كنف عائلة حنونة ومثقفة وفقيرة، كان أبي بطلا حقيقيا علمني كيف أعيش بشرف وبجد وكيف أنجح بضمير دون أن أخدش كرامتي.
المرض قضى على كل أحلامي منذ طفولتي وأبعدني عن أهدافي، نعم مرض أبي النفسي جعلني أهرب من حياتي و أتخطى مراحل كان من المفروض أن أعيشها إلى حياة قاسية كنت صغيرة عليها وعلى حملها الثقيل، كنت طالبة مجتهدة فدرست في قريتي تلدرة في السلمية حتى المرحلة الثانوية ومن ثم بدأت حياتنا تسوء أكثر وأكثر مما دفعني إلى اختيار أقصر الطرق للهروب من المنزل وهو الزواج.
الأمل تجدد بعد الزواج والانجاب فبعد ان أنجبت ابنتي الكبيرة قررت أن أحيي طموحاتي وأحصل على أولها وهو حصولي على الشهادة الثانوية ،ومن هنا وضعت النقاط الأساسية للنجاح كأم وزوجة وطالبة، بحيث نظمت وقتي وحياتي وواجباتي حسب الأولويات وبموافقة زوجي بشرط أن أكون ناجحة وأن لا أخذله أمام المجتمع الذي كان له نظرة أخرى وهي (التي لم تنل الشهادة قبل الزواج لن تحصل عليها بعده).
بقليل من الحكمة وكثير من الصبر والجهد حصلت على الثانوية وكان عمر ابنتي في حينها سنه، وبعد أربع سنوات أنجبت ابنتي الثانية وبدأت تزداد واجباتي في تدريسهم والاهتمام بهم وبالعائلة ولكني ازددت قوة ووعيا وقررت أن أكمل دراستي بعد انقطاع دام خمسة عشر عاما عن الدراسة، وهنا تكمن الصعوبة في العودة إلى الكتاب ولكني كنت أحسد صديقاتي وأصدقائي الذين درسوا في الجامعات وعاشوا تلك الحياة التي كنت أحلم بها، دائما كنت أتخيل كيف سأجلس على مدرج الجامعة وأحضر مثلهم المحاضرات وأعيش الاجواء الجامعية بكل تفاصيلها.
تتابع فاتن ابراهيم حيدر: سجلت في قسم الترجمة بجامعة البعث في حمص وهذه كانت رغبتي وحلمي فأنا أعشق اللغة الانكليزية والعربية أيضا، وازدادت واجباتي المنزلية اولا وأصبحت بحاجة إلى المال لكي أدفع ثمن المواد الجامعية وزوجي مزارع والوضع لا يسمح ولكن أستطيع أن أساعده في الزراعة لكي احصل على المال وأكمل دراستي، وهكذا بدأت حتى أنهيت دراستي وحصلت على إجازة جامعية في الترجمة بجدارة وبدرجة جيدة جدا وتابعت ولم أتوقف وأصبحت أدرّس المادة في مدارس التعليم الأساسي ومن ثم الثانوية.
ومع بداية الحرب على وطني الحبيب سورية انتابني احساس غريب تراكمت الأفكار وتأججت المشاعر حدّ الانفجار فلديّ الكثير لأقوله وأكتبه، من هنا بدأت بالكتابة.
بدأت كتابة الخواطر وكان للتواصل الاجتماعي دور هام في تشجيعي، أصبحت أعشق الورقة والقلم و كان لوطني الدور الأكبر في تطور كتاباتي لأنني كنت أكتب عنه بصدق وبحب فكتبت :
وطني حبيبي
الحبُّ دِيني والغرامُ توسّلي
والشّعرُ أرسلني إليكَ كمرسلِ
حُيّيتَ يا وطنَ الجمالِ فتنْتني
وسلبتَني منّي وأنتَ مكمّلي
يا دمْعةً في مقلتي يا خفقةً
في نبضَتي يا شُعلةً في مِقولي
يا وحيَ أيامي التي استعجلتُها
ورفيق أحلامي وسرّ تبتّلي
يا قبلتي أنّى أتجهتُ وكعبتي
أنّى أصلّيْ للإلهِ الأجملِ
وطني سماواتُ الجمال بأسرها
منذُ ارتعاشاتِ الحروف بأنملي
شِعري بشائرُ لهفةٍ ممزوجةٍ
بالسلسبيل وبالزبرجد والحلي
أعددتهُ لك أيها الوطنُ الجمي
لُ وصنتُ فيه تجمّلي بتحمّلِ
ما زلت قدوة كل نفسٍ حرّة
تصبو إلى شرفٍ انتماءٍ أوّلِ
الشعر قبلَكَ لا حدودَ لشوكِهِ
وبكَ استقرَّ على فراشٍ مخملي
والشعرُ جمّلني بحبّك وحده
حتّى قرأتُ عليه قولَ الفيصلِ
سرحَ البيانُ به بأعذبِ صورةٍ
خلدتْ على مرّ العصورِ الكمّلِ
قم سيدي وانظر قصيدك رائجاً
هو بيت مجد الشاعر المتأمّلٍ
( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ الا للحبيبِ الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنيـنه أبداً لأول منزلِ )
وتضيف الشاعرة فاتن ابراهيم حيدر : اتجهت بقلمي إلى التعبير عن كل حالة كنت أمرّ بها أو تثير مشاعري فقد كان الألم ملهمي في كثير من الأوقات فكتبت قصيدتي (من أجل عينيك أبي) عندما تلقيت الضربة الأولى من القدر وهي وفاة والدي وهنا انقلبت موازين حياتي فقلت :
مِنْ بعدِ عينيكَ أبي
كَيفَ الصراخُ أبِي قَد بُحَّ في العَلنِ
عَن الفِراقِ وَعَن دَوّامةِ المِحنِ
عَن وَحدةٍ فِي مَغيبِ الشَمسِ تَأسِرنِي
عَن الغيابِ هُنا عنٰ مَوعِدِ الشَجنِ
عن المَطامِحِ هَلْ أضْحَت مُؤجلةً
تمضي بِها الريحُ نحو الواقعِ الأسِنِ
إنّي وَحقّكَ قَد ذُقتُ المَرارَ أسىً
منْ بَعدِ عَينيكَ لَا أحَظَى بِمُؤتمنِ
مَاذَا أقُولُ وَقَد شُحَّ الصِحَابُ لَنا
وَكمْ صَرخَتُ لمَنْ أرجوهُ يُسعِفني
فِي الروحِ جَرحٌ وَفي أَعْماقِ أوردتي
سَيفُ الخِيانةِ كَم يَختالُ فِي بَدني
أينَ الأمانُ الذي مازلتُ أَطلبُهُ
أينَ الوعودُ التِي غَابتْ مَعَ الزمنِ
أنا نشيدٌ منَ الأحْزانِ قَد صَدحَت
فيهِ الحَناجِر حتّى ذبتُ بالحَزنِ
كَريشةِ الرِيحِ روحي وَسطَ زوبعةٍ
تَبقى تَدورُ وَلا تَرتاحُ في سَكنِ
أقولُ حسبي وإنَّ الآه صارخةٌ
وَحسبيَ الله أنْ ألقى بهِ وَطني
قدْ جفَّ حِبري وظَلَّ الدَمعُ مِحْبرتِي
مَا عُدتُ أصْحو فقد أمَسيتُ في كَفني
وتقول الشاعرة فاتن ابراهيم حيدر : الضربة كانت قوية ولكنّي مازلت صامدة وصبورة ولم أخطط أبدا للانكسار والتراجع فقد سلكت طريق التميز والنجاح وهذا لا يتفق مع الضعف مهما كانت الحياة مؤلمة وقاسية فأنا لديّ أمي فهي الأمان السند ومعلمتي والحضن الذي يحميني، كيف لا وقد ضحت بعمرها من أجلنا وتحملت ظروف مرض أبي ولم تغادر القرية يوما لتهرب من العذاب والقهر فهي لم تبحث عن السلام لنفسها أبدا إلا بقربنا وقد استحقت من كتاباتي القسم الأكبر والأجمل :
قدّيسَتي
أقبلتُ
فإبتسمتْ قدّيستي
و أخْفَتْ
خلفَ إبتسامتها ألفُ دمعهٍ
غيّرتْ ملامحَها
قبلتني ..
ضمتني كما عوّدتني
..وفاحَ عبيرٌ
أنعشَ قلبي
آه أماه!
أخفيتِ كلّ آلامك
لتفرحي طفلتك
أيتها الملائكية
يا غيمةً سماويةً تمطر حباً
وتروي حديقةَ روحي
لتتفتح أزاهيُرها
ماذا أقول
يا تاريخاً نابضاً إحتوى
كلّ الأسى والألم
ياسماءً
خيمتْ على أرواحنا
بظلالِ الطمأنينةِ والأملِ
كمْ صليتُ لأجلكِ
يا ٱيةً من التسامح
أماه ..
لماذا تخفينَ دمعتكِ
ألمْ تدركي بعد
أني كبُرْت
وصرتُ أتقنُ فنَّ فهمِكِ
ألمْ تعلمي
أنني أصبحتُ أمّاً مثلك
أبدّلُ ملامحي
كما أبدلُ ثوبي
تماماً كما تفعلين ..
أمّي !
يا كلَّ حروفي
وأعظمَ عناوينِ حياتي
دعيني أصلّي تحتَ قدميكِ
حيثُ الجنّة
هنا..
تتفجّر عيون الرضا
وأنهار الخير
فتملأ الكون أماناً
لا تحزني أمّي
وتعالي لأقبّل يديك
وأتلو عليكِ آياتِ حبي
حبٌّ لانهايةَ له
وبدايتُه النبضةُ الأولى…
لا تحزني يا قدّيسَتي
فاللؤلؤُ جميلٌ
ولكنْ
ليسَ عندما يهطلُ
من عينيكِ ….
وبما أن لكل مجتهد نصيب فقد حصدت نتائج جهدي وتعبي خلال تلك السنوات المريرة فطبعت مجموعتي الأولى التي تحمل عنوان (مزن الهوى) وتحتوي مجموعة منوعة من القصائد الموزونة وكان ذلك في دار الحداثة للنشر في العراق في معرض بغداد الدولي للكتاب لعام ٢٠٢٢.
وبعد عدّة سنوات كان رصيدي لابأس به من القصائد العمودية والنثرية وأيضا الخواطر وبعض القصص الواقعية فقد انتهيت من كتابة مجموعتي الثانية وهي عبارة عن نصوص نثرية بعنوان (زخات عشق) ستصدر قريبا.
وهذه المجموعة تنوعت بين الحب والغزل والحالات العامة والمرأة ومعاناتها ورومنسيتها ورقتها فكتبت :
زخات عشق
هُناكَ في بَلدتي
حَيثُ تُدَقُ أجرَاسُ الكنائسِ للسلامِ
ونَطربُ لصوتِ ساعةِ
المَحبةِ القَديمةِ
كَما نَطربُ لسماعِ قَطراتِ المَطرِ
تَمنيتُ أن أكونَ مَعك
هُناكَ عِندما
يَأتي المَساءُ حَاملاً
عَزفَ مِزمارٍ أو ناي حزين
من شُرفةٍ تَتدلى مِنها عَرائش
اليَاسمين
وتَغمُرها رائحةُ الطمأنينةِ والبيلسان
تمنيتُ أن أكونَ معكْ
هناكَ
في مُنتصفِ الليلِ
سَيناديني القمرُ
لينيرَ قَهوتي المُظلمة
ويفتحَ منْ فُنجاني
نافذةً على المَدى
إلى زمنٍ جديدٍ
سأتكئُ على مرفأِ كَتفكَ
كَطفلةٍ ريفيةٍ
حالمةٍ
وأتركُ العنانَ لفيضِ كَلماتي
لتهطُلَ زخاتِ عشقٍ
علّها تطفئ نارَ عَذاباتي
لن أبكي بعدَ اليومِ ليلاً
سَأبني لكَ عالماً مجهولاً
الحبُّ قانونه
وأنتَ مَلِكه
لستُ ليلى
لكنّ العشقَ يسكنُ أبياتي
أنت ..أنت يا
نبضَ نبضيَ المتفجرَ
نبعاً من أفئدتي
دَعني أرسو في مِيناء صدركَ
واحرُسْ غاباتِ شَعري
وأوردتي
واطبعْ قبلةً على عينيّ
لتمسحَ أرقي
ربّما أنامُ الليلةَ هُنا
ما دمتَ معي
أشعلْ لفافةَ تبغِكَ
دَعني أراقبُ دُخانها
المُرتجف
أطيرُ خَلفها بأجنحةِ
أحلامي
أُطاردها
إلى المجهولِ
أتحللُ في الهواءِ
أتغلغلُ في الوردةِ عطراً
أثمرُ في قلبِ العصفورِ لحناً
وأغنيةً
لنتعانق هنا تحتَ هذه السماء
لنمتزج معاً كعصير روحين
ونجري كجدولِ الماء
لنحتضن الأثيرَ
ونشربَ لحنَ الحياةِ
دعني أتبعثرُ فوقَ
ساحاتكَ وأرنو
إليكَ
سأمحو فيكَ ذاكرتي
وعلى تراتيلِ أنفاسكَ
سأنتظرُ فجري القادم
لكَمْ رغبتُ أن أعيشَ هنا
وأراكَ هنا
وأموتَ هنا
وتقول فاتن ابراهيم حيدر : الحياة لا تعطينا كل ما نريد ولكن لطالما نحن على قيدها ونتمسك بالأمل اذا يحق لنا أن نسرق الفرح والضحكة ويحق لنا أن نسابق الزمن ونتخطى الألم ونحلق إلى الأعلى فقد عزمت على النجاح في عدّة مجالات وتفوقت سواء في مجال الدراسة والتعليم والكتابة والإعلام وكزوجة وأم أيضا.
وتختم .. الأهم من كل ذلك لقد نجحت في الحصول على شهادة برّ ورضا أمي وأبي ومن هنا كان رب العالمين معي في كل خطوة وسأتابع دون تراجع فبحر العلم والأدب واسع وسأنهل منه قدر استطاعتي.
اقرأ أيضا : الأديبة فاتن ديركي | حكاية حياة ومحطات مليئة بالألم والأمل
(( تابعنا على الفيسبوك – تابعنا على تلغرام – تابعنا على انستغرام – تابعنا على تويتر ))