هوى الشام
لا بد من القول إن الدراما السورية الآن تشهد تطوراً مهماً ونقلة جديدة، تفتح أمامها آفاق التجديد والإبداع والتميّز، مسلسل شارع شيكاغو –كتابة وإخراج محمد عبد العزيز- دليل واضح على هذه النهضة الدرامية.
العمل بنكهة سينمائية تستطيع أن تجمع المستوى الفني الرفيع ولغة الشارع اليومي معاً، فلا تتعالى عليه، أيضاً الحوارات فيه لا تختبئ خلف لغة مفتعلة ومتردّدة، كما تفعل باقي المسلسلات، والأهم أن اللغة السينمائية البصرية لا تتنازل عن مخاطبة الذوق الرفيع، وهو ما يعزّزه الاعتناء والحرص على سينوغرافيا أو تفاصيل الديكور والملابس، حرصٌ يصل إلى استجلاب صحف ذاك الزمان في الستينيات، ويصح أن نطلق عليه العمل المتكامل في جمعه بين القصة الجيدة، والإخراج الذي يدرك ما يريد، والأداء المتنوع والمختلف لأشغال الممثل عموماً، وغيرها من مفردات العمل الفني الإبداعي التي تُظهره بالجودة المطلوبة والمتوخاة.
الإنسان ابن ماضيه، ولنفهم ما يحدث الآن يجب أن نفهم ما كان يحدث في الستينيات، وهما فترتان ينجح صنّاع العمل في الانتقال بينهما ببراعة تستحق الإشادة، ومع أن العمل يُعرض على قناة مشفرة، غير أنه أحدث حالة التفاف جماهيري حوله، فسرعان ما تجد بعض الحلقات طريقها على منصات اليوتيوب، لتشهد تفاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، التي سرعان ما تنشر وتشارك بعض المشاهد التي تُفصح عن مضمون المعنى.
واحدة من أهم ميزات العمل التي يتفرّد بها، هي جودة تركيب الأحداث على مستوى الحلول الإخراجية، مبررات فنية قوية، يكشف عنها كل اختيار لواحدة من مفردات العمل البصرية، بداية من اختيار الممثلين، وقبلها اختيار الفكرة، ثم كتابتها بشكل جيد، إلى الموسيقى التي تناسب تصاعد الأحداث والصراع بشكل مميّز، وهو صراع كان بدأ أصلاً من الدقائق الأولى للعمل الذي يجذب المشاهد ويدفع إلى متابعته وانتظار الحلقة المقبلة.
الرومانسية والإثارة البوليسية تجعلان شارع شيكاغو استثنائياً في هذه التوليفة المشوّقة، من خلال العمل على تكوينات درامية متوازية ومتقاطعة في آن معاً، فالقصة تشهد فصولاً من التغيّرات الاجتماعية والسياسية المهمّة في البلد، بطريقة غنيّة بالأحداث والتفاصيل السياسية والاجتماعية اليومية.
العمل يُحسب كإنجاز لشركة “قبنض” التي تشاركها في إنتاجه منصة “وياك”، تحكي قصته عن فتاة دمشقية اسمها “ميرامار”، جسّدت دورها الفنانة “سلاف فواخرجي” -تعيش قصة حب جارف وسط مصاعب اجتماعية متعدّدة، وتهرب مع الشاب الذي تحبه، وهو “مراد عكاش”، بطل شعبي يلعب دوره في مرحلة الستينيات “مهيار خضور”، وفي الزمن الحاضر يؤديه النجم السوري “عباس النوري”، ثم ينتهي الأمر بجريمة قتل لا تُكشف ملابساتها إلا بعد قرابة الـ 50 عاماً، وهي افتتاحية القصة التي تقودنا خيوط حبكتها إلى معرفة القصة القديمة.
العمل يدخل في مستويات تُعتبر جديدة على الدراما المحلية، منها على سبيل الذكر، مشاهد العراك والشجار التي تهرب منها الأعمال المحلية بسبب صعوبة تنفيذها، نجدها الآن بشكل مقنع يحاكي أفلام الأكشن، ففي أحدها تهجم جماعة من “المتشددين” على شارع شيكاغو بهدف إغلاقه، وإلغاء أجواء التحرّر فيه، في ترميز جيد لواقع المناخات الفكرية السلفية التي عصفت بمنطقتنا الآن وفي الماضي، فيخرج رواد الحيّ –شارع شيكاغو- ويدافعون عن شارعهم ثم يحتفلون بتمسّكهم بالمتنفس الذي يحقّقه لهم هذا الحيّ.
كشكل يبرع صُنّاع العمل في انتقاء زوايا الكاميرا والمونتاج والقطعات الرشيقة، التي تضع الجمهور في أجواء الشارع وما يدور فيه من أحداث، الأمر الذي يشكل بادرة جيدة للدراما المحلية في عدم التردّد أمام تنفيذ المشاهد الصعبة.
هناك ثلة من نجوم الصف الأول الذين ظهر كلّ منهم بمستوى جيد يليق بمشواره وتاريخه الفني، القدير “دريد لحام”، رغم زمن ظهوره القليل كضيف شرف، إلا أنه يُظهر حرفيته وتمكنه من أدواته، كما أن الفنانة أمل عرفة التي تؤدي شخصية سماهر، تُقدم واحداً من أفضل الأدوار في مسيرتها المهنية، امرأة تعاني الازدواجية بين نوعين من الحياة، المغنية والراقصة من جهة، والفتاة البعيدة عن عائلتها، التي تشعر بالعار مما تقوم به من جهة ثانية، إنها شخصية متعدّدة الأبعاد وذات تركيب درامي متداخل، اشتغل عليها المخرج وفق مبدأ “من الداخل إلى الخارج”، فلا تختبئ الممثلة خلف الشخصية، لكنها بالعكس تنجح في استحضار الشخصية إلى منطقة الممثل، خصوصاً وأن الغناء من المهارات والمواهب المعروفة عن أمل عرفة، لديها أغان ومشاركات كشخصية تغني في أدوار فنية متعددة، مثل “خان الحرير” و”عشتار”.
مسلسل “شارع شيكاغو” أعاد للأذهان مزاج تلك المرحلة بكل صخبها وألقها، بالحياة التي تمور في تلك الشوارع وفيها ما فيها من الحكايات المدهشة، الحكايات الغائبة للأسف عن الدراما السورية بأنواعها، والتلفزيونية منها بشكل خاص، خصوصاً وأن هذه الدراما بقيت لسنين طوال لا يشغلها إلا ما يُعرف بـ”دراما البيئة” التي تقع أحداثها بين أحياء دمشق القديمة والتي هي –أي تلك الأحياء في مسلسلات البيئة- ليست إلا من أشغال الديكور في الواقع، أما النوع الآخر الذي شغل بال صُنّاعها وأدار كاميرات التصوير فكان “دراما العشوائيات” والتشويه البصري الذي قدّمته تلك الأعمال بحجة “الواقع”، وهكذا فإن “شارع شيكاغو” يطلع الجمهور بعد طول غياب، على نموذج من الأحياء الحداثوية ولكن العريقة في الوقت نفسه.
العمل يستحق المتابعة بعين المتأمل وعين المعجب بالشغف والجهد الكبيرين اللذين بذلهما فريق العمل على جوانيات الأمكنة، بشغف يُظهر الوله والاحتفاء بدمشق التي تنفض عنها ركام الحرب.