هوى الشام | بين الورود ودمشق علاقة أزلية وحكاية حب واحدة لا يمكن فصل عراها والحديث عن واحدة دون الأخرى فلطالما كانت الفيحاء عاصمة للورود ولطالما كانت الوردة رمزا دمشقيا خالصا.
هذا الكلام ليس جديدا ولا من باب الإنشاء فلدينا الشاعرة الإغريقية سافو التي عاشت قبل 2700 سنة تحدثت في قصيدة شهيرة لها عن الوردة الدمشقية نشرها موقع وورلد برس العالمي تقول فيها:
“إذا أراد زيوس إعطاء ملكة من الزهور فهذه الزهرة هي ملكة كل الأزهار”.
وإذا مضينا عبر القرون الى زمننا الحالي فسوف نتوقف عند قصيدة للشاعر الراحل نزار قباني حملت عنوان “الوضوء بماء العشق والياسمين” حيث قال شاعرنا:
“جئتكم من تاريخ الوردة الدمشقية
التي تختصر تاريخ العطر
جئتكم من أزهار النارنج والأضاليا والنرجس والشاب الظريف التي علمتني أول الرسم”.
لقد دخلت الزهور في تلافيف حياة الدمشقيين وباتت جزءا من حياتهم اليومية بل وصمموا بيوتهم بطريقة تراعي وجود الكثير من أحواض الزهور والنباتات فالدكتور ابراهيم حقي في كتابه /دمشق في ثمانين عاما/ يتحدث عن تصميم الإيوان في البيت الدمشقي والذي كان يبنى غالبا في الجهة الجنوبية من البيت بحيث لا تدخله شمس الصيف فيبقى باردا وكانت توضع فيه أصص تحوي نبتة السيف وهي ذات أوراق كبيرة دائمة الخضرة إضافة الى الشمشير والقرطاسية وكان الجالس في الإيوان صيفا يرى البحرة في ارض الديار وماءها المتدفق والأزهار والأشجار التي تغرد العصافير فوق أغصانها ما يغنيه عن الذهاب لأي منتزه.
ويخبرنا الدكتور حقي عن النباتات التي زرعها الدمشقيون في بيوتهم من الليمون والنارنج والكباد والمشمش الهندي والياسمين الأبيض والعراتلي والشاب الظريف والورد والقرنفل والفل والهرجاية والليلكة والباكونيا والمكحلة والسمكة وغيرها حيث كان يرفعون الأسطح عن سطح أرض الديار كي لا تتسخ بفعل التراب والماء عندما تروى.
هذه الصورة عن تعلق الدمشقيين بزراعة النباتات والاعتناء بها ولاسيما عند النساء يرويها أيضا كتاب /دمشق التاريخ صورة وإعلان/ لمؤلفه المحامي غسان سبانو الذي نقل عن المؤرخ الدمشقي نعمان قساطلي 1854 _ 1920 فيقول //في صحون بيوت دمشق برك محفوفة بالليمون وغيره من الأشجار مع كثير من النباتات العطرية ذوات الأزهار الجميلة والروائح الزكية ولنساء دمشق غرام زائد بالأزهار فيحرصن عليها الحرص الشديد//.
ولكن هذا الوله الدمشقي بالزهور وتربيتها لن يبقى أسير البيوت وسيجد له متنفسا وسيعلن عن حبه للعالم أجمع عندما استضافت دمشق أول معرض سوري للزهور والثاني عربيا في 14 أيار من عام 1973 كما يخبرنا بذلك الباحث والدبلوماسي الراحل عبد الله الخاني في كتابه /ولادة السياحة في سورية/.
لقد كان الخاني أول وزير للسياحة في سورية وكان لافتا أن اول إجراء اتخذه ونشاط قام به بعد تعيينه وزيرا بأربعة شهور ليس إقامة فنادق وموتيلات ورغم حاجة البلاد لها بل كان إقامة معرض للزهور.
لقد نظر الخاني الى الورود نظرة إكبار الى حد كبير فوجدها عنوان الحضارة وبأنها تجمل الطبيعة ورمز الحب وشافية المريض وموثقة الصداقات والعلاقات بين الناس فضلا عن كونها تجارة رابحة تعتني بها الدول وتتسابق في إظهار جمالها وتحسين أنواعها وأشكالها وتقيم لها معارض سنوية يؤمها عشاق الطبيعة ومحبي الزهور.
هذا الكلام الصادر عن دبلوماسي عتيق ومخضرم إنما يعكس الوله الدمشقي بالورود لذلك وجد الخاني في بداية تبوئه لمنصب وزير السياحة أنه من الضروري للحاق بالدول العالمية في هذا المضمار إقامة معرض سنوي للزهور ولاسيما وأن سورية أعطت للعالم أجمل وردة وهي الوردة الدمشقية التي نقلها الصليبيون الى اوروبا فأحسنوا زراعتها واستخرجوا منها العطور.
لقد بحث الخاني ومعاونه برهان قصاب حسن أرجاء دمشق لإيجاد مكان مناسب لهذا المعرض فوجدا أن أفضل مكان هي حديقة الجاحظ فبدأ العمل لجعل المعرض دوليا منذ دورته الأولى لا سوريا فحسب وتواصل لهذه الغاية مع سفراء عرفهم خلال عمله بوزارة الخارجية وطلب منهم الاتصال بحكوماتهم وبمؤسسات الزهور لديهم لحثهم على الاشتراك فاستجابوا لدعوته واشتركت في المعرض الاول لبنان والاردن والعراق ومصر وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وتركيا واندونيسيا وتركيا وتايلاند واليابان فضلا عن اجنحة مثلت دمشق والمحافظات.
المعرض الذي انطلق بتعاون بين وزارة السياحة ومحافظة دمشق كان لافتا في دورته الأولى إقامة مسابقة لأجمل تنسيق للزهور وفازت فيها اليابان ومسابقة لأجمل شرفة في بيوت دمشق تزينها الزهور والورود والنباتات.
أما المعرض الثاني الذي أقيم في الفترة من 26 أيار ولغاية 1 حزيران من عام 1974 فزاد فيه عدد الدول المشاركة مع ليببا وألمانيا الديمقراطية كما تم اتخاذ إجراءات لتلافي شدة الازدحام من الزوار الذي لمسه القائمون على المعرض في دورته الأولى.
وفي الدورة الثالثة من المعرض التي أقيمت خلال الفترة من 25أيار ولغاية 1حزيران 1975 فازت فرنسا بجائزة أفضل جناح وأندونيسيا في مسابقة تنسيق الزهور عبر زهرتها الشهيرة الاوركيده.
وشهدت الدورة الرابعة من المعرض 1976 مشاركة الهند والصين بجناحين كبيرين وفوز اليابان بجائزتي أجمل جناح وأجمل تنسيق للزهور وأصبح المعرض يحظى بحضور جماهيري كثيف من سكان دمشق الذين وجدوا فيه وفقا للخاني ترفيها عن النفس ومتعة بريئة كما كان له الأثر البالغ في زيادة عدد محلات الورد في العاصمة ونشر حب الزهور والعناية بها في حدائق الدور وشرفاتها.
في الأعوام اللاحقة سيبتعد معرض الزهور عن مهده الأول وسيجرب حدائق أخرى تستضيفه فانتقل إلى حديقة كيوان خلف فندق شيراتون دمشق ثم رحل صوب حديقة تشرين التي احتضنته منذ عام 1989 وكانت الخيار الأنسب لاتساع مساحتها وغزارة الغطاء النباتي فيها.
وليس هذا فحسب فالمعرض لم يعد مقتصرا على تقديم النباتات والزهور والصناعات المرتبطة بها بل خصصت له أنشطة مرافقة من العروض السينمائية والمسرحية للكبار وللصغار وملتقيات الفن التشكيلي ليتحول المعرض إلى حدث ثقافي بامتياز.
واليوم فإن معرض الزهور الدولي اجتاز امتحانه الأصعب منذ تأسيسه قبل 49 عام عندما اضطرته ظروف الحرب على سورية الى التوقف عدة دورات قبل ان تعود الحياة إلى نسغه مجددا عام 2018 ولتستقبل دمشق ورود العالم وازاهيره كما حملت له وردتها في الزمن الغابر لتثبت أن الأزهار بملمسها الناعم ونضارتها ورائحتها اللطيفة هي أقوى من رائحة البارود والات القتل والتخريب.
وعبر تعاقب السنين لم يخفت بريق معرض الزهور أبدا بل على العكس زاد عدد زواره فبلغ في عام 2007 النصف مليون زائر ووصل عدد الأجنحة المشاركة فيه عام 2010 إلى 106 أجنحة من عشرين دولة.
واليوم تنطق فعاليات المعرض بدورته 42 بمشاركة نحو 200 مشارك داخلي وخارجي ويتضمن نشاطات فنية وترفيهية وثقافية متنوعة.